اڼهيار عملة تركيا كيف يؤثر ذلك على العالم العربي

موقع أيام نيوز

اڼهيار العملة التركية وتأثيره على العالم العربي: قراءة في التداعيات الاقتصادية والسياسية

شهدت الليرة التركية خلال السنوات الأخيرة تراجعًا حادًا في قيمتها، خصوصًا بعد عام 2018، وتسارع هذا التدهور في 2023 و2024، مما أثار مخاۏف اقتصادية داخل تركيا وخارجها. ومع أن هذا الاڼهيار يُعد في جوهره شأنًا داخليًا تركيًا، إلا أن تأثيراته تتجاوز الحدود، خاصة على الدول العربية التي تربطها بتركيا مصالح تجارية، سياحية، سياسية وحتى ثقافية. هذا المقال يسلّط الضوء على انعكاسات اڼهيار الليرة التركية على العالم العربي بمختلف قطاعاته، محاولًا تقديم تحليل واقعي بعيدًا عن التضخيم أو التهوين.

أولًا: التأثير على التجارة والاستيراد العربي من تركيا

تركيا تُعد من أكبر المُصدّرين إلى الدول العربية، سواء من حيث المواد الغذائية، الملابس، الأجهزة الكهربائية، أو مواد البناء. ومع تراجع سعر الليرة، تصبح المنتجات التركية أرخص عند التصدير، مما يجعلها أكثر تنافسية في الأسواق العربية. من زاوية أولى، هذا يفيد التاجر والمستهلك العربي؛ إذ يحصلان على سلع أرخص نسبيًا مقارنة بالسلع المستوردة من أوروبا أو الصين.

لكن في المقابل، هناك خطړ حقيقي على الصناعات المحلية في بعض الدول العربية، خاصة تلك التي تعاني من ضعف القدرة الإنتاجية أو ارتفاع كلفة التشغيل، مثل الأردن أو لبنان أو السودان. المنتجات التركية الأرخص قد تغزو الأسواق وتُضعف المنتج المحلي، مما ېهدد بمزيد من البطالة في قطاعات التصنيع الخفيف داخل هذه الدول.

ثانيًا: الاستثمار العربي في تركيا

تركيا، خلال العقد الأخير، اجتذبت كميات كبيرة من الاستثمارات العربية، سواء في القطاع العقاري أو السياحي أو الصناعي. المستثمرون من الخليج العربي بالذات – السعودية، قطر، الإمارات والكويت – لعبوا دورًا بارزًا في تنشيط الأسواق التركية. ومع انخفاض قيمة العملة، يصبح الدخول للسوق التركية مغريًا أكثر من أي وقت مضى، خاصة في القطاع العقاري الذي بات يُعرض بأسعار مغرية جدًا بالدولار.

لكن في الوقت ذاته، يعاني المستثمر الحالي (الذي استثمر سابقًا بالدولار أو اليورو) من خسائر فادحة عند تحويل الأرباح إلى عملات قوية، أو عند محاولة بيع الأصول التي فقدت قيمتها الفعلية. إضافة إلى ذلك، فإن حالة عدم الاستقرار المالي في تركيا، وارتفاع التضخم، يثيران قلق المستثمر الجديد الذي بات يتردد في الدخول وسط بيئة متقلبة.

ثالثًا: التأثير على السياحة

تركيا تُعد من أكثر الوجهات جذبًا للسائح العربي، خصوصًا من دول الخليج وشمال إفريقيا. اڼهيار الليرة جعل السياحة في تركيا أرخص نسبيًا، مما قد يؤدي إلى زيادة أعداد السياح العرب، وهو ما بدأ يظهر بالفعل في الأرقام الأخيرة للوافدين إلى إسطنبول وأنطاليا.

لكن هذه الإيجابية الظاهرة قد تُواجه تحديات، خاصة إذا ترافقت مع تدهور الخدمات العامة أو ارتفاع معدلات الچريمة المرتبطة بالأزمة الاقتصادية، أو التوترات السياسية مع بعض الدول العربية كما حدث مع مصر أو الإمارات في فترات سابقة. السياحة ليست فقط مسألة كلفة، بل كذلك مسألة أمن واستقرار وثقة.

رابعًا: التأثيرات السياسية والجيوستراتيجية

تركيا الفاعل الإقليمي في الشرق الأوسط لم تعد بنفس الزخم بعد الأزمة الاقتصادية المتفاقمة. ضعف العملة انعكس على القوة الشرائية للجيش، وعلى قدرة تركيا على دعم حلفائها في سوريا، ليبيا، وحتى في إفريقيا. هذا قد يُفسّر لماذا بدأت أنقرة مؤخرًا تعيد ترتيب أولوياتها وتلجأ إلى تحسين العلاقات مع دول كانت على خلاف معها سابقًا، مثل السعودية ومصر.

بالمقابل، تستفيد بعض الدول العربية من تراجع الدور التركي، خاصة تلك التي كانت تعتبر أنقرة منافسًا إقليميًا، وتسعى الآن لتعزيز نفوذها في مناطق كانت تركيا حاضرة فيها بقوة.

خامسًا: التأثير على العمالة واللاجئين

تركيا تضم ملايين من اللاجئين العرب، خصوصًا السوريين، إلى جانب عدد كبير من العمالة العربية. اڼهيار العملة يعني تآكل القدرة الشرائية لهؤلاء، مما يدفع الكثيرين إما لمحاولة الهجرة إلى أوروبا، أو للعودة إلى بلدانهم، أو للدخول في سوق العمل غير النظامي بشكل أكبر. هذه التحولات قد تؤثر بشكل غير مباشر على بعض الدول العربية التي كانت تعتمد على تحويلات مالية من تركيا.

كما أن انخفاض العملة قد يُغري بعض العمالة العربية الرخيصة (مثل اليمنيين أو السودانيين) بالتوجه إلى تركيا بحثًا عن فرص أفضل نسبيًا، ما يزيد الضغط على سوق العمل التركي المُنهك أصلًا.

سادسًا: التأثير الثقافي والإعلامي

تركيا كانت تلعب دورًا ناعمًا قويًا في العالم العربي من خلال القوة الناعمة: المسلسلات، الإعلام، التعليم والمنح الدراسية. هذا التأثير بدأ يتراجع تدريجيًا مع الأزمة، حيث لم تعد المؤسسات الثقافية التركية قادرة على الإنفاق بسخاء كما في السابق، كما تراجعت القدرة على جذب الطلاب العرب. كذلك، قد تتأثر بعض القنوات الإعلامية المدعومة تركيًا أو المتواجدة في إسطنبول، نتيجة شح التمويل.

سابعًا: فرص التعاون بدلًا من المنافسة

مع كل هذه التحديات، يمكن النظر إلى الوضع من زاوية مختلفة. اڼهيار العملة التركية يفتح بابًا واسعًا لـ التكامل الاقتصادي العربي–التركي، إذا ما تم استثماره بعقلانية. فالدول العربية قد تجد فرصة لتعزيز صادراتها إلى تركيا بأسعار منافسة، كما يمكن للمستثمر العربي أن يدخل في شراكات صناعية ذات قيمة مضافة بدلًا من الاستثمار العقاري فقط.

لكن هذا يتطلب رؤية استراتيجية واضحة من الطرفين، وتجاوز حالة الارتجال السياسي والاقتصادي التي تُهيمن على العلاقات في كثير من الأحيان.

إن اڼهيار الليرة التركية ليس مجرد أزمة اقتصادية داخلية، بل له امتدادات إقليمية واضحة، لاسيما في العالم العربي. التأثيرات متنوعة ومعقدة؛ إيجابية في بعض القطاعات وسلبية في أخرى. بعض الدول ستستفيد من تراجع الأسعار وزيادة السياحة، بينما ستتضرر أخرى من المنافسة التجارية وفقدان الاستثمارات.

في النهاية، تبقى العبرة في كيفية تعامل الدول العربية مع هذه المتغيرات، فإما أن تُحوّل التحدي إلى فرصة، أو تكتفي بردود فعل سطحية تُفاقم من هشاشة اقتصاداتها.

تم نسخ الرابط