يستضيف الرئيس الصيني شي جين بينغ الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا

لولا في بكين: عندما تلتقي البرازيل والصين على طريق التحالف الاستراتيجي
في مشهدٍ يعكس تحوّلات لافتة في موازين القوى العالمية، استقبل الرئيس الصيني شي جين بينغ نظيره البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا في العاصمة بكين، في زيارة رسمية تمثل دفعة قوية للعلاقات الصينية-البرازيلية، وتؤكد تنامي الشراكات بين قوى الجنوب العالمي.
اللقاء لم يكن مجرد مناسبة بروتوكولية، بل اتسم بطابع استراتيجي واضح، حيث ناقش الجانبان ملفات حيوية تتجاوز العلاقات الثنائية، وتمتد إلى قضايا اقتصادية وجيوسياسية تؤثر على مشهد النظام الدولي برمّته.
خلفيات الزيارة: عودة لولا... وعودة التوازن
تأتي زيارة لولا للصين في توقيت بالغ الأهمية؛ فالرئيس البرازيلي الذي عاد إلى الحكم في مطلع 2023 يسعى إلى إعادة تموضع بلاده على المسرح الدولي بعد سنوات من العزلة الدبلوماسية النسبية في عهد الرئيس السابق جايير بولسونارو، الذي اتسمت علاقاته مع الصين بالتوتر.
من جانبه، يجد الرئيس الصيني شي جين بينغ في لولا شريكًا يمكن الوثوق به لإحياء رؤية "الجنوب العالمي"، خاصة أن كلاً من بكين وبرازيليا تنتمي إلى تكتل "بريكس"، الذي تسعى دوله إلى تأسيس نظام عالمي أقل خضوعًا لهيمنة الغرب.
الاتفاقيات: من التجارة إلى الطاقة الخضراء
الزيارة لم تكن رمزية فقط، بل أثمرت عن سلسلة من الاتفاقيات التجارية والاستثمارية تغطي مجالات الزراعة، الطاقة، النقل، والبيئة. أبرز ما تضمنته اللقاءات هو توقيع اتفاق يسمح للبرازيل بتصدير منتج "الحبوب الجافة المقطرة" – أحد مشتقات الإيثانول – إلى السوق الصينية، ما يمثل إنجازًا اقتصاديًا للبرازيل، ويمهد لتوسيع التعاون في قطاع الوقود الحيوي.
كما أعلنت شركة "إنفيجن إنيرجي" الصينية عن نيتها استثمار مليار دولار في مشاريع للطاقة النظيفة بالبرازيل، وتحديدًا لإنتاج وقود طيران مستدام، في خطوة تهدف إلى تسريع انتقال البلدين نحو مصادر طاقة صديقة للبيئة.
الاتفاقيات شملت كذلك مشاريع بنية تحتية مشتركة، تتعلق بالموانئ وشبكات النقل لتسهيل تصدير الحبوب والمنتجات الزراعية البرازيلية، التي تعتمد الصين عليها بشكل متزايد لتأمين غذائها.
صوت الجنوب العالمي... من بكين
في تصريحاتهما العلنية، شدد الزعيمان على أهمية إعادة تشكيل النظام العالمي بما يخدم المصالح المشتركة للدول النامية. دعا الرئيس لولا إلى إنشاء نظام عالمي "أكثر عدلًا ومساواة"، فيما أكد شي جين بينغ أن "الصين والبرازيل، كقوتين كبيرتين في العالم النامي، قادرتان على قيادة تحولات بناءة في المشهد العالمي".
الجانبان أعادا التأكيد على التزامهما بدعم التجارة الحرة، ورفضا العقوبات الأحادية المفروضة من قبل بعض القوى الكبرى، في إشارة غير مباشرة إلى الولايات المتحدة وأوروبا.
البرازيل والصين: أرقام تعزز السياسة
يبلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين أكثر من 150 مليار دولار سنويًا، وتعد الصين أكبر شريك تجاري للبرازيل منذ عام 2009. وتستورد بكين من البرازيل بشكل أساسي فول الصويا، الحديد، واللحوم، بينما تصدر لها المعدات الإلكترونية، الأدوية، والمنتجات الصناعية.
هذا الاعتماد الاقتصادي المتبادل يمنح العلاقات بين البلدين طابعًا استراتيجيًا بعيدًا عن المزاج السياسي العابر، ويجعل الشراكة بينهما مرشحة للنمو حتى في ظل التوترات الجيوسياسية العالمية.
ردود الفعل الدولية: واشنطن تراقب بقلق
الزيارة لم تمر مرور الكرام على دوائر صنع القرار في واشنطن، التي تتابع باهتمام توسع نفوذ الصين في أمريكا اللاتينية. فقد عبر مسؤولون أمريكيون، بشكل غير رسمي، عن قلقهم من تعاظم التعاون الصيني-البرازيلي، واعتبروه مؤشرًا على تراجع تأثير الولايات المتحدة في المنطقة التي لطالما اعتبرتها مجالًا استراتيجيًا لنفوذها.
لكن البرازيل، على لسان رئيسها، أكدت أنها تسعى إلى تنويع تحالفاتها لا استبدالها، وأنها لا ترى نفسها ملزمة بالانحياز في الصراع القائم بين الصين والغرب.
ما بعد الزيارة: خارطة تعاون مستقبلي
يشير محللون إلى أن هذه الزيارة ستفتح الباب أمام مزيد من المشاريع المشتركة، سواء في الإطار الثنائي أو ضمن تكتل "بريكس" الذي يسعى إلى تأسيس عملة احتياط بديلة للدولار، وتعزيز التنسيق في مجالات الاقتصاد الرقمي والابتكار.
ومن المتوقع أن يُعقد منتدى أعمال مشترك في النصف الثاني من العام الجاري، يضم ممثلين من القطاعين العام والخاص في البلدين، بهدف تسريع تنفيذ مذكرات التفاهم وتحويلها إلى مشاريع ملموسة على الأرض.
خاتمة: تحالف ما بعد القارات
زيارة لولا إلى الصين ليست مجرد محطة دبلوماسية، بل هي إعادة تعريف لدور البرازيل في السياسة العالمية، واستعراض لقوة الصين الناعمة في خلق شراكات متوازنة خارج نفوذ الغرب التقليدي. في عالم يتجه نحو التعددية القطبية، يُحتمل أن تصبح بكين وبرازيليا محورين رئيسيين في تشكيل ملامح المستقبل.